يشتعل حزنك غضباً.. لا تحتمل عيناك المحدقتين حرقته، فتشيح بناظريك إلى حيث تستطيع أن تفعل شيئاً.. أي شيء وأنت أمام لوحة الموت والدمار التي رسمتها جحافل الوحشية والهمجية ولونتها بدماء أهلك.. لتفرغ القهر المقيم في نفسك.
وطيلة حياتك المحملة بأعباء المقهورين حفظت جيداً تلك الملامح التي ترتسم على وجوه الضحايا من أبناء جلدتك… بشر تكالب المعتدون على قهر إنسانيتهم، ملامح مرسومة بالعذاب والألم وانكسار الروح.
لكن ما بال هذه الحجارة المحروقة وكأنها تحدق فيك؟.. تشكو إليك ما ألمّ بها على يد صانعي مأساتك وتنبئك بأنها لا تزال تعبق بأنفاس ساكنيها الضحايا، وأنها استمدت من حياتهم المسفوكة حضورها في المشهد الدموي الماثل هنا.
هذا الحجر كان ركناً في كنيسة وما يزال خاشعاً بعد أن سكنت في تفاصيله أدعية الرهبان ومخافة الله.. والاستعاذة من الشيطان الذي غزت زبانيته هذا الصرح المقدس، يشهد الحجر على ما فعله هؤلاء.. دنسوا طهارة المكان ونهبوا ما به من أيقونات تضرع من خلالها العابدون وتقربوا إلى مرضاة الله، وامتدت يد الزبانية هؤلاء إلى النفائس فنهبوها من غير مراعاة لحرمة المكان وقدسية من يبتهلون إليه في السماء.
إلى يمينك ترى ما تبقى من مشفى كان بلسماً لآلام الناس ومواساتهم، تتساءل: كيف يمكن لبشري مهما كان همجياً ومتوحشاً أن يحول هذا المكان الذي كُرّس لإنقاذ حياة الناس إلى ساحة للموت والدمار وميداناً يتدرب فيه القتلة على أبشع السبل التي تمكنهم من سفك دم البشر؟!
وتتساءل ما بال هذه الحجارة المقلوبة تشخص نحوك ؟؟! أتشهد على الجاني الذي نبش مهد ماضينا الموغل في الحضارة.. ينهب ما صنعه أجدادنا من رموز للحضارة ثم ينسبه إليه زوراً وبهتاناً؟ فمتى كان القاتل مصدراً من مصادر الحضارة الإنسانية وهو قاتلها ومدمرها ؟! ومتى كان السارق يستطيع الادعاء بأنه ساهم في فعل يضيء التاريخ البشري وهو الذي يطفئ أي شعلة توقد في مسيرة بناء الحضارة ؟!!
وأنت تجول بين الخرائب، تنفتح أمامك بوابات الذاكرة، فتتراءى لك ظلال الحياة التي ذوت.
أصداء ضحكات الطفولة التي سفحت هنا حيث كانت ساحة العيد، وفي تلك الزاوية من (صحن الدار) ما تزال جلسة النسوة معقودة يتعاونّ على (شغل) البيت، يستقوين على التعب بالأغنية، ويغسلون الهموم بالدعاء والصبر الجميل.
وهاهم أولاء الرجال المتعبون في كدّ يومهم يعودون مسرعي الخطا نحو دفء البيت وحنان الزوجة وشقاوة الأولاد!
كل هذه الحياة تغمرك بتفاصيلها وأنت واجم أمام كل هذا الركام، حيث تمد يدك الراعشة لتلمس بعض ما تبقى، تشعر بأنفاس ساكنيها تختلج، ولا تدري ما التي تدحرجت على ظاهر يدك الممدودة، أهي قطرة من مطر تلك البلاد السخية؟ أم هي دمعة كانت ذرفتها عين ثكلى حرقة على وليدها الذي قضى تحت القصف الهمجي؟!
هناك، حيث الدمار يحيطك من كل الجهات، تحدث المعجزة، تنقلب صرخات الألم هتافاً يلف القتلة ويهيئ لمحاسبتهم. وترتب الخرائب حطامها متاريس للمعركة القادمة، وتجتمع همهمات الضحايا وأناتهم في نشيد هادر تجتمع على إيقاعه عزائم الرجال وزغاريد النسوة ولهفة الأولاد الذين يستعجلون فتوتهم!
بقلم: رحاب عمورة
نشرت سابقا في جريدة الدبور السورية عام 2007