صور سريعة تمر أمامي.. ذكريات وأفكار تتدفق إلى مالا نهاية.. حكايات جدي.. صدى يتردد داخل جمجمتي.. إنه يوم النصر.. إنه يوم #الجلاء.. كلمة سمعتها كثيراً من أناس مختلفين.. لكنني لم أتحسس معناها إلا من جيل الأجداد.. فهم عاشوها بكل حرف.. بكل دمعة.. بكل قطرة دم سالت على أرض الوطن.. بكل صرخة آه.. خرجت من أعماق أمٍ جاءها خبر استشهاد ابنها..
حكايات جدي.. ليست مجرد حكايات.. إنها قصة شعب مناضل.. إنها جريان الدم في الشرايين ليصل إلى القلب فتنبض به الحياة..
لا أدري.. لماذا كلما تذكرتها شعرت بغصة في حلقي.. هل لأنني لم أكن أعيش في ذلك الزمن العظيم..؟! أم لأن عظمته لم تستمر إلى زماننا هذا..؟! أو ربما ورثت عن جدي غصته وهو يروي الحكايات؟.. كانت الدموع تتدفق بحرقه.. فيقول: أخي شهيد هذا #الوطن.. دماؤه ودماء أصحابه حررت التراب المقدس.. شباب لم تتجاوز أعمارهم العشرين.. خرجوا في الصباح وكلهم همّة ونشاط.. نادت الأم بأعلى صوتها.. أين تذهب يا بني.. فلم تشرق الشمس بعد؟! صوتها مختنق.. كأنها تعلم.. إنه قلب الأم.. فأجابها.. أمي.. الشمس لن تشرق أبداً إلا إذا خرجت.. تلاقت نظراتهما.. وكأن كل واحد منهما يعلم ماذا يريد أن يقول الآخر.. وبدأ صدى الصمت يتردد في زوايا المنزل.. قبّل يدها وجبينها.. ضمته إلى صدرها بكل قوة منحها الله لها في تلك اللحظة.. حتى كادا يلتحمان في جسد واحد.. قالت: (الله معك!).. دموع تنهمر بصمت.. يخرج دون أن ينظر خلفه.. غزال يجري إلى نبع المياه ليرتوي.. ودارت المعارك على نبع المياه الذي استولت عليه الذئاب.. قاتل مع أصدقائه حتى آخر نبضة في قلبه.. وروّت دماؤه الأرض لتخضر وتزدهر.. انتصروا.. رفعوا الرايات.. واندحر الذئاب عن أرضنا..
عاد إلى البيت محمولاً على الأكتاف.. وجهه مشرق والشمس تلمع فوقه.. جمدت الأم مكانها.. لم تعلم ماذا تفعل.. أتبكي ابنها.. فلذة كبدها؟ أم تبكي فرحاً بعودة الأرض واندحار العدو؟!.. فما كان منها إلا أن بكت.. بكت من كل قلبها.. من كل خلية في جسدها.. دموعاً اختلطت فيها الأحزان والأفراح.. وصرخت بأعلى صوتها: ابني فداء للوطن.. عمري فداء للوطن.. وإن طلب المزيد فلن أبخل عليه أبداً..
وأطلقت زغرودة.. اختلط صوتها مع صوت البكاء..
عندما عدت إلى رشدي.. وجدت الدموع تنهمر من عيني.. والغصة لا تزال في حلقي.. فقلت: ستبقى الغصة مادام شبر من أرضي الحبيبة في براثن الذئاب المغتصبين!
بقلم: رحاب عمورة
نشرت سابقا في جريدة الدبور السورية عام 2006